الشهادات فوق الجامعيه: بين الضروره العمليه و النظرة الاجتماعية











١. يطلب مني كثير من الشباب النصح و المشوره في فكرة التفرغ للدراسات العليا، و كيفية التقديم للجامعات الامريكيه لنيل درجة الدكتوراه، و المنح المتاحه للطلاب الأجانب.

 رغم  من سروري من استفسارات الشباب والتي تبين درجة الوعي و الطموح لدى جيل الألفيه الا انني أجد حرجا في الإجابة على استفساراتهم. ليس فقط لأعتبارات الشعور بالمسؤولية تجاه من وضع ثقته فيّ و ارتضى نصحي و مشورتي، ولكن لقناعتي ان الإجابة على هذا الاستفسارات يجب أن تختلف باختلاق السائل: وضعه الأكاديمي و المهني، مهاراته و إمكانياته الشخصيه و أهم من دلك تصوره لمستقبله المهني . لذلك ينبغي الا تكون الإجابة قياسيه (Standard answer) بل يجب ان تراعي خصوصية الحاله (tailer made answer).


٢. بعد ان اكملت برنامج الماجستير في مدرسة بيتر دراكار لإدارة الاعمال، طلبت المشوره من دكتور  S.E.M (وهو من أميز اساتذة ال Business Strategy) حول فكرة التسجيل لبرنامج الدكتوراه. فاجأني الدكتور برده: قبل ان أبدي وجهة نظري، عليك ان تقنعني بجدوى الدراسات العليا بالنسبةلك و لماذا تفكر فيها ابتداء؟ تعجبت من تعليقه، و أخذت ابحث عن كلمات مناسبة للرد، لكنه تبسم و قد قرأ الدهشة البادية في وجهي، ثم أردف قائلا: ان التسجيل لدرجة الدكتوراه هو قرار كبير يجب ان تكون مدركا لإبعاده، لأن الدراسه ستتطلب منك استثمار وقتك و جهدك و مالك بل وحتى علاقتك بعائلتك. فلا ينبغي ان تقبل على هذا الاستثمار مالم تكن لديك أسبابا موضوعيه تدفعك لذلك. فمثلا، اذا كنت تظن ان الدكتوراه ستسهم في مستقبلك الوظيفي، او تزيد من مخصصاتك الماليه فأنت مخطيء. و اذا كان دافعك هو الوضع الاجتماعي او النظره المجتمعيه فهناك طرق اخرى  (ايسر من الدكتوراه) ربما أعطت نتائج افضل. اما اذا كانت لديك اهتمامات أكاديمية و بحثيه، او لديك رغبة في التوسع في تحصيل العلم بغية نقله للاجيال فحينها فقط انصحك بالتفكير (وليس التسجيل) في امر الدكتوراه.


٣. إنتشر مؤخرا في الشبكه العنكبوتيه موقعا يكشف الستار عن اسماء مرموقة في عدد من الدول العربيه، يزعم الموقع انها لم تحصل على شهاداتها العليا بصورة شرعيه، بل قامت اما بتزويرها، 

أو بشرائها من مواقع تبيع شهادات صادره عن بعض الجامعات الغربيه بمبالغ قد تصل لمئات الآلاف من الدولارات. المثير في الامر ان معظم الشخصيات الوارده في الموقع تنتمي لدول عربيه خليجيه. الجدير بالذكر، ان الجهة ألمنظمه لامتحانات ال TOEFL قامت في العام ٢٠٠٩بتعزيز إجراءات التأكد من هوية الممتحنين بعد ان اكتشفت ان هناك شبكة متخصصة يقوم أفرادها بالجلوس للامتحانات إنابة عن الطلاب نظير الاف من الدولارات يدفعها الطالب لأعضاء الشبكة: وقد تبين أن معظم زبائن هده الشبكة هم من الطلاب العرب.


٤. يبدوا ان ملاحظة دكتور  S.E.M كانت صائبه، فالحصول على شهادة الدكتوراه في منطقتنا العربيه يعد مفخرة اجتماعيه اكثر منه إنجاز أكاديمي. من القصص التي تؤكد هذا المعنى، ان مدير احدى شركات النفط العربيه (وهو من الحاصلين على شهادة الدكتوراه بجده و اجتهاده) يحرص على وضع الدال الذهبيه (د.) امام اسمه في كل المراسلات، لدرجة انه يقوم باعادة أي خطاب يرد الى بريده للتوقيع، اذا ورد اسمه في ذيل الخطاب مجردا من الدال الذهبيه. ثم ان الشركه قد تعاقدت مع احد المتخصصين العرب ممكن يحملون شهادة الدكتوراه  للعمل فيها. فكان هذا الدكتور الوافد يذيل خطاباته باسمه ولا ينسى اضافة الدال. يبدوا ان هذا الامر قد اثار حفيظة المدير العام، اذ لم يرضى ان يشاركه احد في تلك المكانة الاجتماعية. فقام بإصدار  تعميم إداريي ينص على ان درجة الدكتوراه هي درجه أكاديمية، فلا يجب استخدامها في المراسلات الخاصه بالعمل (وهو محق في هذا، فمن النادر ان يستخدم الامريكي الحاصل على الدكتوراه لفظ دكتور اذا كان يعمل في غير المجال الأكاديمي) ، لكنه بالطبع استثنى نفسه من ذلك التعميم الاداري، فواصل استخدام الدال و حرم منها الآخرين !!!!


٥. قضية النظره الاجتماعية للشهادات الأكاديمية لا تقف عند دول الخليج، بل تشمل كل المنطقه العربيه. وقفت موخرا على عدد من التقارير الصادمه حول وتيرة إصدار شهادات الدكتوراه في بعض الجامعات السودانيه، الامر الذي جعل عددا من الدول تحذر مواطنيها من الانتساب لتلك الجامعات لانها غير معترف بها لدى وزارات التعليم العالي في تلك الدول. لاشك ان مايدفع تلك الجامعات للتساهل في إصدار شهادات ال Post Graduate هو حوجتها للموارد الماليه، لكن المتأمل للامر يتبين ان الحرص المتزايد من البعض على تلك الشهادات هو ما حرك الفكره لدى ادارات الجامعات.


٦. دعونا ننظر للمسألة من جانب آخر، ماذا استفاد السودان من الجيش الهائل من طلاب الدراسات العليا اللذين ابتعثتهم حكومة السودان للخارج للحصول على شهادات الدكتوراه، و صرفت عليهم من أموال المواطن المسكين (ابتداء من خمسينات القرن الماضي، و حتى بداية الالفيه) هل كانت هناك استراتيجية للابتعاث، ام ان الامر كان مجرد سنة وضعها الاولون و سار عليها الآخرون؟

 هل هنالك ثمة دراسة للمقارنة بين  الأموال التي صرفت و الفوائد التي جلبها هؤلاء على المجتمع ؟ هل كانت ثمة جهة ما تحدد التخصصات الأكاديمية و المجالات البحثيه التي يحتاجها المجتمع، وتدفع بالطلاب للتخصص و ملأ النقص، أم ان امر اختيار التخصص كان متروكا لمزاج الطالب (والذي في غالب الامر لا تكون الأمور واضحة بالنسبة اليه). حدثني والدي (و قد عمل في مشروع ألجزيره : وهو اكبر مشروع زراعي سوداني في افريقيا و الشرق الاوسط في سبعينات القرن الماضي) ان الإنجليز كانوا يديرون مشروع الجزيرة  بكفاءة عاليه، و بأقل الميزانيات التشغيلية. لكن فلسفة إدارة المشروع تغيرت بعد السودنه، فأصبح مدير المشروع و روساء الإدارات يغيرون سياراتهم كل عام، و حشدت الميزانية التشغيلية بكثير من البنود الكمالية والتي لا علاقة لها بال core business. من هذه البنود، أن المشروع اصبح يوفد منتسبيه لاوروبا للحصول على درجتي الماجستير و الدكتوراه، وقد اصبحت ميزانية الابتعاث في وقت لاحق مكلفة للغايه، لكن الموظفون اخذوا ينظرون الى الامر باعتباره حقا وظيفيا لا يمكن التنازل عنه.وطبعا لا  يغيب على فطنة القارىء ان نسبة مقدرة كانت تبتعث للتخصص في مجالات لا يستفيد منها المشروع، و أخرى تذهب ولا تعود، و أخرى يصعب عليها تحصيل العلوم لطول عهدها بالمجال الأكاديمي. الشاهد ان كل هذه الجموع كان يصرف عليها من أموال مزارعي المشروع اللذين غدوا يتحسرون على المدراء الإنجليز اللذين ما بددوا أموال مشروعهم كما فعل سلفهم السودانيون. لاشك عندي ان النظره الاجتماعية للشهادات الأكاديمية كانت هي المحرك لذلك البزخ الأكاديمي، والصرف غير المرشد.



٧. 

٧. ان برامج الماجستير و الشهادات المهنيه و الزمالات الحرفيه قد تكون اكثر كفاءة من شهادة الدكتوراه للشخص الذي يريد ان يتطور في المجال المهني. فليس من المنطق ان يقضي الانسان خمسة أعوام من عمره و يستثمر عشرات الآلاف من الدولارات للحصول على شهادة الدكتوراه، ثم يعود الى عمله ليجد انه اصبح ينظر اليه كشخص over qualified فلا يُجد من يوظفه، ولا من يقيم علمه. أما اذا كان الشخص أكاديمي بطبيعته، ميال للبحث العلمي، و راغب في الاستمرار في سلك التدريس و الأبحاث، فحينها فقط ينصح بمواصلة درب الشهادات الأكاديمية العليا.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

سياحة في عالم التنافسية التكنولوجيّة

تأملات استشرافية في مستقبل الجغرافيا السياسية

تأثير الحرب الروسية الاوكرانية على امدادات الغذاء