سياحة في عالم التنافسية التكنولوجيّة
*سياحة في عالم التنافسية التكنولوجية*
عبدالرحمن عبدالله سيد أحمد
يوليو ٢٠٢٤
- في العام ٢٠١٨ كنت قد كتبت تغريدة غصت فيها في عوالم الذكاء الاصطناعي وآفاق التكنولوجيا. تداخل معي عدد كبير من الزملاء وكان السؤال الأكثر تردداً : ماهو الذكاء الاصطناعي؟!!اما اليوم، وبعد حوالي ستة أعوام، لا اظن ان احدا من رواد مواقع التواصل الإجتماعي يحتاج الى طرح هذا السؤال، بل إن إبني الذي ولد في ذلك العام، عادة ما ينتظر عودتي من العمل لأخذ هاتفي وإمطار Siri و ChatGPT بوابل من الأسئلة التي يصعب علي الإجابة عليها.
- في عام ٢٠١٥، إستطاعت شركات التكنولوجيا ان تنافس شركات الطاقة على قوائم أكبر الشركات في العالم (من حيث القيمة السوقية)، حينها لم أجد تفسيرا منطقيا لهذا الأمر. كانت معرفتي بالتكنولوجيا غاية في السطحية والسذاجة. فلم اكن أنظر إلى فيسبوك و تكتوك سوى مواقع للمسامرة وإهدار الوقت، بل ان جهلي جعلني أسخر من الذين يستثمرون في أسهم شركات التواصل الإجتماعي. لكني بدأت سبر أغوار هذا العالم، بعد ان انتقلت للعمل في قطاع التكنولوجيا في العام ٢٠٢١، وبدأت التفسيرات المنطقية لتساؤلاتي القديمة تتكشف شيئا فشيئا. كان أكثر ما أفادني في رحلة الأستكشاف لهذا العالم المجنون، هو آخر إصدارات هنري كيسنجر (The Age of AI).
- لقد إستطاعت الولايات المتحدة الأمريكية التحكم في حركة الإنترنت عبر مستويين: (أ) إمتلاكها لعدد ضخم من مراكز البيانات التي تقدم خدمات حفظ المعلومات والحوسبة السحابية. (ب) إمتلاكها لشبكة ضخمة من الألياف الضوئية، والتي بمقدورها نقل البيانات بسرعة عالية تقارب سرعة الضوء. فاذا أراد شخص في جنوب أفريقيا إرسال رسالة إلكترونية إلى شخص في نيجيريا؛ فإن الرسالة تغادر افريقيا إلى امريكا أولاً (حيث سيرفرات الأنترنت)؛ ثم تعود إلى افريقا مرة أخرى لتستقر في بريد المستلم. هذه الآلية مكنت الشركات الامريكية من التحكم في حجم مهمول من المعلومات المتداولة عالميا، إبتداء من التحاويل المالية وإنتهاء برسائل الواتساب. هذه البنية التحتية الجديدة، والحجم المهول من المعلومات مهد الطريق امام شركات التكنولوجيا لإستثمار أموال طائلة في تقنيات وتطبيقات الذكاء الاصطناعي، ليس على مستوى البرمجيات فحسب، ولكن أيضاً على مستوى البنية التحتية وثقافة الإبتكار. ولك ان تتخيل ان مراكز البيانات Deta Centers (والتي تهيمن عليها كلا من اميركا والصين) اصبحت تملك المقدرة على تخزين بيانات المستخدمين لقرون من الزمان. الشيء الذي يجعلها تستهلك من الطاقة (لتبريد السيرفرات) ما يفوق إستهلاك مدن بأكملها. ولكم ان تتخيلوا ان الحرارة المنبعثة من الاجهزة تكفي لتسخن المياه في فصل الشتاء. بقي ان نقول ان الجيل الجديد من مراكز البيانات التي صممت لتوفير الحجم المطلوب من قوة الحوسبة computing power للإيفاء بمتطلبات برامج الذكاء الاصطناعي AI تفوق كلفتها المليارات من الدولار، وان اجهزة المعالجة الرقمية (السيرفرات) هي بمثابة القلب الذي يعالج المعلومات بسرعة فائقة. هذه السيرفرات تعتمد بشكل كامل في عملها على الشرائح الالكترونية وأشباه الموصلات.
- هناك محدد مهم يتحكم في تحديد الدول المؤهلة للمنافسة في حقل الذكاء الاصطناعي، وهو كمية المعلومات المتوفرة. ذلك ان أحد أهم عناصر الذكاء الاصطناعي هو مقدرة الآلات على التعلم الذاتي Machine Learning. هذا الشيء يقتضي تدريبها عبر إمدادها بكمية مهولة من المعلمات. مثلا؛ تصميم برنامج للمحادثة (مثل Siri) يتطلب تزويد الآلة بكمية ضخمة من النصوص والدردشات، بحيث تستطيع الآلة عبر هذا الكم الهائل من المعلومات الخروج بأنساق مختلفة والتعرف على أساليب التكلم والحوار وإكمال الجمل والتوصل الى الأجوبة المناسبة. هذه الأحجام الضخمة من المعلومات ليست متوفرة سوى لعدد بسيط من الشركات الأمريكية (فيسبوك، جوجل) والصينية (ويشات، تكتوك). وهو ما يجعل المنافسة في عالم الذكاء الاصطناعي محصورة بين الولايات المتحدة والصين.
- اما المحدد الأهم الذي سيمنح الدول تذكرة الدخول إلى نادي التنافسية العالمية في مجال التكنولوجيا، هو مقدرتها على تأمين احتياجاتها من الرقائق الإلكترونية Electronic Chips. فإذا كان النفط هو وقود الثورة الصناعية، فإن الرقائق الإلكترونية هي وقود ثورة التكنولوجيا. وقد وجدت الإحصاءات الحديث أن إنفاق الصين على شراء الرقائق الإلكترونية قد تجاوز مشترياتها من النفط. لا غرو، فالرقائق الإلكترونية لا تتوقف عند المنتجات الإلكترونية التقليدية، بل تتعدها إلى صناعة السيارات والطائرات والأدوات المنزلية والمعدات الطبية ومولدات الطاقة بل وحتى الصناعات الدفاعية والعسكرية. هذا يمنحني الثقة بإدعاء ان الصين لم تعد تخشى حظر النفط عنها (barrels of oil) بقدر قلقها من الحصول على الرقائق الإلكترونية (bytes of data).
- حتى وقت قريب، كانت قوائم الحظر التي تفرضها الحكومة الأميركية على مبيعاتها إلى الصين وروسيا تشمل الأسلحة وتقنيات الفضاء. اما اليوم، فالقائمة تكتظ بمنتجات التكنولوجيا، وعلى رأسها الجيل الجديد من أشباه الموصلات (المادة الأساسية لصناعة الرقائق الإلكترونية). لقد أصبحت قوائم الحظر الأمريكية تضم إلى جانب المؤسسة العسكرية الصينية والروسية شركات مدنية مثل عملاق الاتصالات الصيني "هواوي". وقد وجدت الأخيرة ان اعتمادها الكبير على تكنولوجيا أشباه الموصلات الأمريكية قد يعيق تطورها مستقبلا. وهو ما دفع الحكومة الصينية إلى الدخول لحلبة المنافسة في انتاج أشباه الموصلات. بيد انه من المستبعد ان يكون بمقدورها الاكتفاء الذاتي في اي وقت قريب، فحجم الطلب الداخلي المهول على أشباه الموصلات يحتم على الشركات الصينية الإعتماد على تايوان (والتي تؤمن حوالي ٣٠٪ من إجمالي الطلب العالمي على أشباه الموصلات) وكوريا الجنوبية واليابان. لكن صناعة الرقائق في هذه الدول تعتمد على اجهزة متطورة وفائقة الدقة تحتكر إنتاجها خمس شركات في العالم: شركة هولندية ، وواحدة يابانية، وثلاث شركات أمريكية.
- ليس من السهل التنبؤ بما ستؤول إليه الحرب الباردة بين الصين والولايات المتحدة في مجال أشباه الموصلات، ومن غير الواضح متى سيكون بوسع الصين الإستغناء عن التكنولوجيا والشركات الأمريكية. يرى بعض الباحثين أنه إذا إستطاعت الصين إحداث إختراق في مجال أشباه الموصلات، اما عبر زيادة إنتاجها المحلي (والاستغناء عن الشركات التايوانية/الأمريكية) او إبتكار تقنيات بديلة. فإنها لن تتجاوز الإقتصاد الأمريكي فحسب (من حيث الناتج الإجمالي)، بل ربما تكون اللاعب الأكبر في حقل التكنولوجيا. ان التنافس العسكري بين الماردين قد لا يحسمه السلاح النووي، بل الحجم المتاح من قوة الحوسبة computing power والذي تحدده المخزون المتاح من الرقائق الإلكترونية وأشباه الموصلات.
- لقد اثبتت شركة TSMC التايوانية أنها المنافس الأقوى في صناعة أشباه الموصلات. فقد أبهرت العالم بمقدرتها على إنتاج جيل من الرقائق الإلكترونية ذات الدقة العالية، وبكميات مهولة. ففي العام ٢٠٢٠ إستطاعت الشركة دمج عدد مهول من الترانزسترات (التي يصل حجم الواحد منها الى نصف حجم فايروس الكرونا) في شريحة الكترونية واحدة، وبالرجوع إلى تقارير الشركة فإن معالجاتها من طراز A14 تحتوي على ما لا يقل عن 11.8 مليار ترانزيستور. في نفس العام استطاعت آبل بيع ما يقارب المائة مليون هاتف من طراز IPhone 12. وهي النسخة التي استخدمت معالجات A14 من انتاج TSMC. اشارت بيانات الشركة في ذلك العام، انه سعياً منها لتأمين إحتياجات أبل من ال A14، فقد استطاعت ان تطور سلاسل الإمداد والوصول الى إنتاج شهري من الترانزسترات يبلغ حوالي واحد كوانتيلين (وهو رقم مكون من ١٨ صفر). لقد إستطاعت شركات إنتاج الرقائق الإلكترونية في العام الماضي من إنتاج عدد من الترانزسترات يفوق إنتاج البشرية من كل السلع مجتمعة ولقرون من الزمان. واذا كانت دول اوبك OPEC مجتمعة تسيطر على أكثر من ٦٠٪ من الإنتاج العالمي من النفط، فإن حفنة من الشركات (لا يزيد عددها عن أصابع اليد الواحدة) في تايوان، كوريا الجنوبية، واليابان تسيطر على حوالي ٩٠٪ من الانتاج العالمي من الرقائق الإلكترونية.
- وحتى تكتمل المقاربة، ولمعرفة التطور المهول في هذا المجال. يجدر التنويه الى أنه قبل حوالي نصف قرن من الزمان، كانت الشرائح الإلكترونية المتوفرة لا تحتوي على اكثر من عدد قليل من الترانزسترات (يقل عن عدد أصابع اليد). لكن الشركات الأمريكية عبر أبحاثها المضنية إستطاعت مضاعفة عدد الترانزسترات المدمجة في الشريحة الواحدة في كل عام، وذلك من خلال تصغير حجم الترانزستور الواحد واستخدام مواد جديدة. وخير دليل على ذلك هو معالجات الآيفون التي جاءت بعد A14، فقد استطاعت شركة ابل بالتعاون TSMC التايوانية من تطوير تصاميم جديدة مكنتها من مضاعفة عدد الترانزستورات في معالجات A15 الى ١٥ مليار، و ١٦ مليار في معالجات A16, و ١٧ مليار في معالجات A17. مفارقة اخرى يجدر ذكرها هنا، وهو ان شركة إنتل Intel كانت قد أبهرت العالم في العام ١٩٧٠ عندما أنتجت ذاكرة إلكترونية لم تتجاوز سعتها حينها ال ١٠٢٤ وحدة تخزينية (bytes)، وقد بيعت بسعر باهظ نسبياً (٢٠ دولار أمريكي). بينما سعر الذاكرة الخارجيّة اليوم، والتي تفوق سعتها المليار bytes يقل عن نصف ذلك المبلغ. وغني عن القول ان أشباه الموصلات هي المادة الأساسية التي لا تستخدم فقط في إنتاج أنظمة التخزين، ولكن أنظمة الطاقة، المعالجات، وحتى الشاشات.
- لقد بات إسم "وادي السليكون" مقترناً عندنا اليوم بشركات البرمجيات والسوشيال ميديا مثل غوغل، اوراكل، مايكروسوفت، ابل، فيسبوك، الخ. لكن الإسم أشتق أساسا لوصف أهم صناعة تم تطويرها في تلك المنطقة في فترة الستينيات والسبعينيات، وهي صناعة أشباه الموصلات. إعتمدت المنطقة في تطوير هذه الصناعة الفريدة على المراكز البحثية لجامعتي ستانفورد و بيركلي، والفرق الهندسية للبحرية الأمريكية ووكالة الفضاء الأمريكية والتي تتخذ من وادي السليكون (جنوب مدينة سانفرانسيكو) مقراً لها. هذا بالإضافة إلى برامج التمويل الحكومية والخاصة والتي وفرت التمويل اللازم لهذه الأبحاث العلمية. وغني عن القول انه نتيجة لهذا المجهود البحثي المهول، تضاعفت ثروات الشركات الناشئة في وادي السليكون، حتى اصبحت في فترة ما معقلا لأكبر عدد من المليونيرات في العالم. لقد دفع السلوك الرأسمالي (الذي يسعى دومًا إلى تقليل كلفة الانتاج، لتعظيم الأرباح) الشركات الأمريكية الى نقل خطوط إنتاج أشباه الموصلات الى دول ذات كثافة سكانية عالية وايدي عاملة ماهرة ورخيصة، وهذا ما اعطى تايوان ميزة تفضيلية. بعدها وجدت الشركات الأمريكية نفسها مضطرة للتعاون مع دول اخرى مثل اليابان، كوريا الجنوبية (واحيانا الصين) لإستكمال مسيرة التطور في مجال أشباه الموصلات. فالحجم المهول من الطلب العالمي يتطلب العمل الجماعي لتوفير المواد الخام، وتصميم سلاسل الإمداد وتأمين حركة النقل البحري والجوي. يرى بعض المراقبين ان تلك الخطوة اضرت كثيرا بالمصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة، فقد أفقدتها الميزة التفضيلية وجعلتها تعتمد بصورة شبه كاملة على دول أجنبية لتأمين احتياجاتها من الرقائق الالكترونية وأشباه الموصلات.
- عودا إلى قضية الحظر الإمريكي على الصين، فقد وقع الرئيس بايدن في ٢٠٢٣ على قرار رئاسي منع بموجبه الشركات الأميركية من التعامل مع الشركات الصينية في ثلاث مجالات: تكنلوجيا الشرائح الإلكترونية المتطورة Advanced Chips، والحوسبة المتقدمة Quantum Computing، وتقنيات الذكاء الاصطناعي. لكن ردة الفعل الصينية كانت عنيفة، فقد لوحت بمنع تصدير بعض المعادن النادرة التي تدخل في تصنيع أشباه الموصلات مثل ال Gallium (تسيطر الصين على حوالي ٩٠٪ من إنتاجه العالمي) و ال Germanium (تسيطر الصين على حوالي ٦٠٪ من إنتاجه العالمي). هذا الفعل والفعل المضاد، يجعلنا نتساءل حول مدى مقدرة اي طرف على تحقيق نصر تكتيكي دون الإضرار بسلاسل الإمداد لصناعة أشباه الموصلات. مع الأخذ في الإعتبار ان أشباه الموصلات تختلف عن النفط، في انها محتكرة بصورة كاملة لعدد يسير من الموردين (الشركات)، اما النفط فيمكن تأمينه بواسطة عدد كبير من الشركات (او الدول).
- في ختام هذه السياحة، اود التنبيه الى ان التحد الأكبر الذي يواجه الدول الراغبة في الإنضمام إلى نادي التنافسية التكنولوجية، ليس الكلفة العالية للبنية التحتية، وإنما إستقطاب العقول النيرة والكفاءات البشرية، وخلق بيئة جاذبة تحفز الإبتكار والتفكير النقدي والإبداعي. هذه الجزئية هي التي تعطي الميزة التنافسية للولايات المتحدة الأميركية على باقي دول العالم (بما فيها الصين). فأغلب الكفاءات البشرية تفضل الهجرة إلى أمريكا، لأسباب عديدة، أهمها هامش الحريات، وترحيب المجتمع الأمريكي بالأقليات، ومقدرة الثقافة الأمريكية على ادماج القادمين الجدد. هذه الجزئية تشكل تحديا كبيرا لكثير من الدول الثرية (مثل الصين، روسيا، ودول الاوبيك). فهي بمقدورها تمويل البنية التحتية المطلوبة لتوطين التكنولوجيا، لكن السؤال: هل تستطيع إغراء الكفاءات والعقول في مختلف أنحاء العالم للهجرة اليها؟ وهل تستطيع توفير بيئة محفزة للإبداع والإبتكار وحرية التعبير؟ وقبل هذا، هل بإمكانها المساواة بين القادمين الجدد والمواطنين ليس على مستوى المنافسة الحرة على الوظايف والامتيازات، بل والمساواة أمام القانون؟ لعل هذه الجزئية هي التي جعلت شخصاً عرف بالخطاب الشعبوي العنصري مثل الرئيس ترامب، يتراجع عن ترهاته ويلوح بأن فريقه يدرس (في حال فوزه في الانتخابات المقبلة) إمكانية منح حق الحصول على الإقامة الدائمة في أمريكا لكل طالب أجنبي، درس وتخرج من الجامعات الأمريكية. فليس من الحكمة أن تترك هذه العقول التي إستفادت من النظام التعليمي الأمريكي، لقمة سائغة يتخطفها الغرماء في بكين وموسكو.
تعليقات
إرسال تعليق